حيث في 27/6 من عام 1880 ولدت هيلين كيلير الأمريكية العمياء والصماء والخرساء التي أصبحت أحد الأمثلة البشرية في تحقيق الذات والنجاح، ليس للمعوقين فحسب، وإنما للأسوياء والمتفوقين منهم أيضاً، بعدما تمكنت هذه المرأة من تذليل إعاقتها الثلاثية، وعاشت حياة زاخرة بالعمل والثقافة والعطاء.
لقد تمكنت هيلين، وهي المحرومة من البصر والنطق والسمع، أن تدرس الحساب، والجغرافيا، والفلسفة، وعلمي الحيوان والنبات، وأن تتقن الفرنسية والألمانية، واللاتينية واليونانية، إلى جانب الإنجليزية، ثم أصبحت تحاضر في الجامعة، وتكتب للصحف، وتؤلف الكتب، مع إجادتها لركوب الخيل، والسباحة، والتجديف، وقيادة القوارب الشراعية والدراجات، إلى جانب اهتمامها بالمعوقين وسفرها الدائم من أجل جمع التبرعات لهم.
وحتى الثالثة من عمرها، كانت الطفلة هيلين مثل غيرها من الأطفال والكبار في مدينة توسكابيا في ولاية ألاباما الأمريكية، حيث ولدت لأب صحافي، ثم أصيبت فجأة بمرض “الحمى القرمزية” الذي تركها صغيرة عاجزة عن رؤية ما حولها، وعن سماع كلمات العطف والحنان، وحتى عن قول ما تشعر به وما تريده، ولكن يقدر الله أن يجعل في طريقها امرأة كانت الأكثر قدرة على فهم ما تعانيه، هي آن سوليفان التي سبق لها أن فقدت بصرها ثم استعادته بشكل جزئي، بعد عملية جراحية، وقررت إثر ذلك أن تكرس حياتها لمساعدة فاقدي نعمة البصر.
في البداية، واجهت “آن” صعوبة كبيرة في كسب ود هيلين التي كانت قد بلغت السابعة من عمرها دون أية صلة بمحيطها إلا بواسطة اللمس والشم فقط، ثم استطاعت أن تجعلها تحبها وتتعلق بها، وحينها بدأت بتعليمها بأسماء الأشياء التي تلمسها، عبر تهجئة الاسم بالضغط على يدها الصغيرة بإشارات ترمز إلى الحروف، حتى تهيأت نفسياً للذهاب إلى معهد لتعلم القراءة والكتابة على طريقة “بريل” وقد كشفت سريعاً عن قدرات مدهشة بالتعلم، إذ أصبحت تقرأ وتكتب (على الآلة الكاتبة) بسهولة وبسرعة، وعندئذ أبدت رغبتها بتعلم الكلام.
التحقت هيلين، وهي في العاشرة من عمرها، بمدرسة للصم في بوسطن، حيث تعلمت كيفية نطق الكلمات عبر تحسس حركات الشفاه والفك الأسفل، واستطاعت نطق عدد من الكلمات بعد شهر واحد من بدئها، إلا أن المقدرة على “الاستماع” إلى كل الكلام الذي يقال أمامها، لم تمتلكها إلا بعد عشرين عاماً، من التمرن على طريقة وضع الإبهام على حنجرة المحدث والسبابة على زاوية فمه، والإصبع الأوسط على منخره لتحسس الحركة والذبذبات.
قبل تحقيق هذا الإنجاز الأخير، التحقت هيلين بكلية “رادكليف” ثم بجامعة هارفرد، وكانت أول فتاة تعاني من ثلاث عاهات تلتحق بالجامعة، وقد ساعدتها آن سوليفان على متابعة المحاضرات فكانت تنقلها لها بحركات الضغط على اليد وهي تحفظها، حتى تخرجت بدرجة الشرف في الرابعة والعشرين.
لم تتوقف هيلين عند ذلك، بل تابعت التحصيل مولية اهتماماً خاصاً للفلسفة، ومظهرة قدرة فائقة في تعلم اللغات التي أتقنت (بالإضافة إلى اللغة الإنجليزية) اللغة الفرنسية والألمانية واللاتينية واليونانية، وقد ترجمت قصائد “هوراس” إلى الإنجليزية.
ومع ذلك لم تقتصر حياة هيلين على الأخذ بل قابلها عطاء كبير، تمثل بتكريسها متسعاً من وقتها لمساعدة المعوقين، إذ تعاونت مع “المؤسسة الأمريكية لمساعدة العميان ” وسافرت إلى كثير من البلدان لجمع التبرعات لها.
كذلك حاضرت في الجامعات، وكتبت للصحف، كما ألفت عدداً من الكتب منها: يوميات هيلين كيلر، العالم الذي أعيش فيه، قصة حياتي، وأغنية الجدار الرخامي، وقد ترجم عدد من كتبها إلى أكثر من خمسين لغة.
وإلى جانب كل ذلك أولت هيلين اهتماماً خاصاً للنشاطات الترفيهية، فمارست العديد من الهوايات، وأتقنت بعضها إلى درجة تفوق إتقان الأسوياء لها، وكانت تشاهد المسرح والسينما مع معلمتها المحبوبة آن، التي كانت تنقل لها ما يعرض، بالضغط على يدها بسرعة مائة كلمة في الدقيقة!
فقدت هيلين الكثير من الاستمتاع بالأشياء، بعد وفاة معلمتها التي كانت رفيقتها ونافذتها على العالم لمدة نصف قرن، فتابعت عطاءها لفاقدي البصر، استكمالاً لرسالة “آن” حتى وفاتها.